صناعة الحقيقة القضائية .. الدليل المثبت والدليل المقنع ..
صناعة الحقيقة القضائية
.. الدليل المثبت والدليل المقنع ..
كتبها الدكتور عبد الحكيم الحكماوي
باحث قانوني
أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا
يرتبط مفهوم الحقيقة القضائية بالبحث عن الدليل الناقل للواقع أمام القضاء بمناسبة قيام نزاع قضائي بين خصوم داخل فترة زمنية محددة يلجؤون خلالها إلى استعمال مختلف أنواع الوسائل للدفاع عما يعتقدونه حقا لهم، ولا غرابة في هذا السياق إذا ما قلنا بأن ذلك الاعتقاد قد يقود صاحبه إلى اللجوء إلى التمويه أو الكذب ” ولو بحسن نية” من أجل الدفاع عن مركز قانوني يعلم في قرار نفسه أنه غير مستحق من الناحية الواقعية.
وإذا كانت الحقيقة الواقعية ثابتة لدى الخصوم ومعلومة لديهم، فإن الهدف من سعيهم إلى الحصول على حقيقة قضائية مختلفة في الكثير من الأحيان عن تلك الواقعية قد يتجسد في صور شتى منها التأثير على حرية الأفراد أو المس بثروتهم أو النيل اعتبارهم الاجتماعي كالخدش في أنسابهم أو حتى في شرفهم.
وكما هو معلوم فالوصول إلى الحقيقة القضائية مقترن بعامل الزمن، ذلك أن الخصوم يجدون أنفسهم مدعوين إلى تقديم الأدلة التي يستندون عليها خلال فترة زمنية محددة؛ وهذا بخلاف الحقيقة الفلسفية أو العلمية التي لا يُعتبر فيها عامل الزمن بالقدر الذي تعتمد على الارتكاز على وسائل يقينية يخلص من خلالها الباحثون إلى القول بأن هناك حقيقة أم لا. وهنا يظهر الفرق الواضح بين كون الحقيقة القضائية قد تقوم على مجرد أدلة غير يقينية مادام للزمن فعله في إكراه الخصوم على تقديم ما يملكونه من وسائل إثبات خلال فترة محددة، والحقيقة العلمية أو الفلسفية التي لا تعطي للزمن أهمية بالقدر الذي توليه للدليل المؤدي إلى إبراز الحقيقة ذاتها بغض النظر عن عامل الزمن.
ومما تجدر الإشارة إليه أن ارتباط الحقيقة القضائية بعامل الزمن له موجبات متعددة منها ما يتعلق بالمواثيق الدولية التي تنص على حق الإنسان في الحصول على حكم قضائي داخل أجل معقول أو ما تنص عليه الدساتير نفسها ومنها الدستور المغربي لسنة 2011 الذي أوجب إصدار المقررات القضائية داخل أجل معقول [1] .
فالحقيقة القضائية بهذا المعنى وبهذه الخصائص تتصف بكونها “حقيقة معقولة” أي أنها تعبير قضائي، بمبررات قانونية، مبني على إنهاء النزاع خلال فترة زمنية محددة بالحد الأدنى من الأدلة المقبولة والمقنعة بغض النظر عن صحة تلك الأدلة وما إذا كانت مطلقة أو نسبية، وبالتالي فإن الحقيقة القضائية ليست حقيقة حقيقية[2] بمعنى أنها ليست حقيقة معلنة عن الحقيقة المطابقة للواقع.
وللحقيقة القضائية مرتكزات متعددة يمكن إجمال أهمها في المرتكزات التالية.
المرتكز الأول: أن يكون الدليل مقبولا
ذلك أن الدليل المقبول لا يكون كذلك إلا إذا ثبت أنه يقود إلى الكشف عن الحق، وهنا لابد من استحضار مدى توافر الشروط المتطلبة للقبول بدليل ما دون غيره؛ على اعتبار أن الدليل لن يكون مقبولا من الناحية القانونية إلا إذا انضبط لقواعد تقديم الدليل من جهة ولقدرته على الكشف على الحقيقة الواقعية ولو كشفا ظنيا من جهة أخرى. فالحق المتنازع فيه إذا كان مجردا عن الدليل فهو حق بدون سلاح.
ومن نتائج ضرورة توافر الدليل المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة افتراق الحقيقة القانونية عن الحقيقة القضائية، بمعنى أن الحق المتنازع فيه قد يكون ثابتا قانونا ولكن انتفاء دليل وجوده أو عدم قدرة هذا الدليل على الكشف عنه عند المخاصمة يؤدي إلى عدم اعتراف القضاء به، ومن تم تكون الحقيقة القضائية نافية لوجود الحق المتنازع فيه بالرغم من وجوده الواقعي والقانوني.
المرتكز الثاني: تقديم الدليل وفق الطرق المحددة قانونا
إن الحقيقة القضائية حقيقة شكلية بالأساس فهي لا تعتمد على الواقع أو تستند عليه وإنما تقوم، كقاعدة عامة، على الأدلة التي عرضت وفق الطرق التي حددها القانون مسبقا[3]،.
فكما هو معروف يمكن تعريف الإثبات: ” بأنه قيام الاستدلال والبرهان على وجود واقعة ما أو تصرف قانوني معين بالطرق المقبولة قانونا والتي يحددها القانون مسبقا”.
ومما يطرحه هذا التعريف من نقاش يتصل بمدى إمكانية ترك الحرية للأطراف لاختيار الطريق الأنسب لإقامة الدليل على وجود وصحة الواقعة أو التصرف القانونيين بدل إلزامهم بطرق بعينها قد لا تسعفهم في الكثير من الحالات لعرض الدليل المثبت لوجود الحق، وما الجدوى من هذا الإلزام سواء من حيث تحديد طبيعة الدليل الواجب تقديمه أو الطريقة التي يجب اعتمادها عند ذلك التقديم.
للجواب عن هذا التساؤل يجب التمييز بين الدليل المعتد به في المجال الجنائي والدليل المعمول به في المجال المدني بمفهومه العام.
نظريا يمكن القبول بوجود هامش كبير للحرية في إيجاد الدليل في المجال الجنائي، حيث للمجتمع مصلحة واضحة في استجلاء الحقيقة كما هي، وبالتالي فإنه ليس هناك أي معيار شكلي لاختيار الدليل المناسب لإثبات صحة الواقعة القانونية المجسدة للجريمة بالقدر الذي نستحضر فيه ضرورة مراعاة الموجهات القانونية العامة التي تضبط الأجهزة المساعدة للقضاء والمكلفة بإنفاذ القانون في إيجاد الدليل على وقوع الجريمة ومن المسؤول عن ارتكابها.
وفي المقابل يطرح التساؤل حول ما إذا كان المناسب للدولة عبر أجهزتها أن تتدخل في النزاعات التي تهدف لحماية المصالح الخاصة للأفراد لإقامة الدليل على صحة دعاويهم أم لا؟
إن الجواب عن هذا التساؤل بالإيجاب أو النفي يقتضي مراعاة العديد من المبررات منها ما يتعلق بالكلفة المالية التي يتطلبها جمع الدليل، ومنها ما يرتبط بالغاية التي يرغب الخصوم في الوصول إليها من خلال الخصومة القضائية وما إلى ذلك.
فالكلفة المالية لجمع الدليل قد تكون باهضة بالقدر الذي يفوق قيمة المصلحة الخاصة المتنازع بشأنها، و لذلك تطرح مسألة الموازنة بين الكلفتين وهي موازنة معتبرة للقول بعدم جدوى تدخل الدولة في إيجاد الدليل الاقدر عن مصلحة خاصة في مقابل الواجب الملقى على عاتقها لإيجاد الدليل الذي يحمي المصلحة العامة.
كما أن عدم تدخل الدولة في إقامة أجهزة لإيجاد الدليل للأفراد توجبه بعض أنواع النزاعات التي يفتعلها المتقاضون بسوء نية عندما يلجؤون لإقامة دعاوى في مواجهة الغير لا لشيء سوى لرغبتهم في الكشف عن أدلة بحوزة أشخاص آخرين غير معنيين بالنزاع القائم ولا يتوفر عليها رافع النزاع أو من أجل الكشف عن أسرار شخصية ربما قد تستعمل في ما بعد انتهاء النزاع أو ما شابهه. أفلا يطرح تدخل الدولة في مثل هذه الحالات المسألة الأخلاقية في إقامة الدليل لفائدة الخواص؟ هذا فضلا عن كون المنازعات المرتبطة بالمصلحة الخاصة يمكن أن تكون محل تصالح بين أطرافها الشيء الذي تنتفي معه الضرورة القصوى لتبني الدولة مهمة إيجاد الدليل في مثل هذه الحلات.
ولذلك فإن استحضار مثل هذه المبررات يفرض جواز الاعتقاد بعدم إمكانية تدخل الدولة من جهة وبضرورة تقنين طرق إقامة الدليل على وجود وصحة الوقائع والتصرفات القانونية أمام القضاء من جهة أخرى تفاديا لإحداث أي نوع من الاضطرابات الاجتماعية من أجل مصلحة خاصة.
المرتكز الثالث: الدقة في تحديد موضوع الإثبات
من المعلوم أن تحديد المسائل القانونية موضوع الإثبات شرط أساسي من شروط إنتاج الحقيقة القضائية؛ غير أنه في هذا السياق يجب التذكير بالقاعدة العامة القائلة بأن الوقائع وحدها يمكن أن تكون موضوعا للإثبات بعكس القانون الذي يجب أن يكون معلوما من طرف القاضي اللهم في حالات خاصة. وهذا يعني أنه متى تعلق بنزاع مرتبط بالقانون فلا مجال للحديث عن إمكانية إثباته أمام القاضي لأن هذا الأخير مفروض فيه معرفة القانون وملزم بتطبيقه بصورة تلقائية؛ وأما إذا تعلق الأمر بنزاع حول واقعة ما أو مجموعة وقائع فإن مبدأ التواجهية في إقامة الدليل على وجود وصحة تلك الوقائع تبقى مقبولة مبدئيا وتبقى للقاضي سلطة تقييم الأدلة التي يقدمها المتقاضون لإثبات تلك الوقائع أو نفيها.
وإذا كانت التفرقة بين كل من القانون والوقائع تبدو واضحة، فإن الحقيقة عكس ذلك. إذ أن هذين المفهومين يحتاجان إلى بيان تزول معه كل عوامل الخلط التي من شأنها التأثير على وظيفة الإثبات وسلطة القضاء إزاء هذه الوظيفة والوسائل التي تتعلق بها.
إن معنى القانون المفروض معرفته من قبل القاضي يتمثل في مجموع المقتضيات التي يتولى سنها المشرع دون غيرها، فالمعرفة المفروضة يجب أن تتعلق بهذا النوع من المقتضيات التشريعية الداخلية لا بغيرها. ويترتب على ذلك عدم إلزام القاضي بمعرفة جميع الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع، وهو ما ذهب إليه مشرع قانون الالتزامات والعقود في الفصل 476 الذي يجبر الأطراف على ضرورة إثبات العرف أو العادة التي يريدون الاستناد عليها في نزاعاتهم [4]، كما يخرج من دائرة المعرفة الملزمة للقاضي تلك الاتفاقيات الجماعية التي يبرمها الشركاء الاجتماعيون أو الاقتصاديون في مجالات محددة من أجل تسوية نزاعاتهم في حالة الإخلال بالالتزامات القائمة بينهم، كما لا يلزم القاضي بضرورة معرفة قوانين الدول الأجنبية، وفي جميع هذه الحالات تصبح تلك العادات والتقاليد والأعراف والاتفاقات الجماعية والقوانين الأجنبية موضوع إجراءات تواجهية ينطبق عليها ما ينطبق على الوقائع وعلى من يتمسك بها أن يتولى بسط الدليل على وجودها.
ومن المسائل المتصلة بدراسة مفهوم القانون الملزم للقاضي في الإثبات، فإن للأطراف حق تفسير وتأويل القانون لتعزيز مراكزهم القانونية في النزاع، باعتبار هذا الحق مدخلا أساسيا يستند عليه المتقاضون لإقناع القاضي بمضمون معين للقاعدة القانونية يلتزمه في حالة قدرة الأطراف على ذلك. ومما يرتبط أيضا بمفهوم القانون التزام القاضي بإعطاء المعنى الصحيح للقاعدة القانونية ولو تدخل الخصوم في تفسيرها وتأويلها، وفي هذا السياق تمكن الإشارة إلى مقتضيات الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية التي تلزم القاضي بضرورة تطبيق القانون ولو لم يطلب المتقاضون ذلك؛ كما أن من مقتضيات مفهوم القانون عدم تحجج القاضي بسكوت النص أو فراغ في القانون أو غموض في عباراته لعدم الفصل في النزاع وإلا اعتبر منكرا للعدالة.
وأما في ما يتعلق بالوقائع فلابد من الإشارة إلى الدور الفعال والمؤثر للأطراف في مناقشتها أمام القاضي؛ غير أن لهذا الأخير السلطة التقديرية المطلقة في تحديد أي الوقائع واجبة الإثبات من غيرها وهذه السلطة وما يتعلق بها من إعمال قواعد الإثبات لا تخضع لرقابة محكمة النقض لاتصالها بالواقع كقاعدة أساسية. لكن هذه السلطة قد تدخل في بعض الحالات تحت رقابة محكمة القانون؛ ذلك أن القانون نفسه هو الذي يتولى، من خلال مقتضياته، تحديد العناصر الواقعية المتصلة بالحق موضوع النزاع. وبذلك فإن الأطراف عندما يتولون عرض الوقائع على القاضي بشكل يخلط بين الوقائع المنتجة في النزاع والأخرى غير المنتجة، فإن القاضي يصبح ملزما بحصر تدخل الخصوم في الوقائع المنتجة دون غيرها وعدم الاعتداد بأي إثبات ينصب على الوقائع الزائدة. وعلى هذا المستوى تكون سلطة القاضي خاضعة لرقابة محكمة النقض إذ تكون أحكامه معرضة للنقض في حالة ما إذا كانت مؤسسة على عناصر غير منتجة أو لا صلة لها بالحق موضوع النزاع كما يحددها القانون سلفا[5]، وبما أن محكمة النقض تختص برقابة ما إذا طبق قاضي الموضوع القانون تطبيقا سليما فإن من جملة التطبيق السليم للقانون اعتبار العناصر الواقعية المنتجة من جملة القانون نفسه.
غير أنه في بعض الحالات يختلط الواقع بالقانون ولو تعلق الأمر بمسائل حددها القانون وجعلها من مشتملات الحق موضوع النزاع، كما هو الأمر بالنسبة للأجل المعقول كشرط لتحقق حالة المطل[6]، وفي هذه الحالة لا رقابة لمحكمة القانون على قاضي الموضوع إلا في حدود اعتبار المؤسسة القانونية من غير امتداد تلك الرقابة إلى المضمون الواقعي لتلك المؤسسة. كما لو تعلق بحالة المطل القائم على الأجل المعقول، فرقابة محكمة القانون ستنصب على مدى اعتبار قاضي الموضوع للأجل المعقول من غير القول بتوافر وتحقق حالة المطل من عدم توفرها، ولكن فيما يتعلق بالأجل الذي يمنحه الدائن للمدين قصد الوفاء بالالتزام المترتب بذمته فإن قاضي الموضوع يستقل بتكييفه القانوني وبالتالي اعتباره أجلا معقولا أو أجلا غير معقول، لأن هذا التكييف مرتبط بالوضعية الواقعية لأطراف النزاع وظروفهم المحيطة بتنفيذ الالتزام وهو أمر لا سبيل لمحكمة النقض ببسط رقابتها عليه.
ومما يتعلق بسلطة قاضي الموضوع في تحديد الوقائع المتصلة بالحق موضوع النزاع، وبالتالي اعتبارها محلا للإثبات، ما يتصل بالعناصر الواقعية اللازمة لقيام الحق موضوع النزاع أو إنتاج آثاره وكذا العناصر المنطقية في النزاع. إذ يعتبر هذا النوع من العناصر من جملة العناصر المنتجة التي تجب مراعاتها من قبل القاضي أثناء عرض الخصوم لأدلتهم من أجل إثبات موضوع الدعوى أو نفيه وهي عناصر يغلب عليها الطابع الواقعي على الطابع القانوني. وفي هذا الصدد يمكن الحديث عن الظروف المحيطة بنشأة الالتزام وكيف أثرت على إرادة الأطراف قبل نشأة ذلك الالتزام وأين اتجهت تلك الإرادة وما مدى تأثير تلك الظروف على إرادة أطراف علاقة المديونية خاصة إذا ما كانت لهم خبرة في مجال التعاقد أو الالتزام الناشئ. فكل تلك المسائل تعتبر من صميم الواقع الذي يستقل قاضي الموضوع بالنظر فيه وتقديرها وتقدير تأثيرها على مسار النزاع.
المرتكز الرابع: ارتباط الدليل باقتناع القاضي كأساس لاعتماده
تظهر أهمية هذا الشرط في الحالة التي تتجه فيها نظرة القاضي إلى اعتماد بعض وسائل الإثبات دون غيرها كوسائل كاشفة للحقيقة القضائية حسب ما نتج بين يديه من أدلة. فإذا كان قاضي الموضوع يملك سلطة تقديرية واسعة في تحديد الدليل المنتج الذي تتأسس عليه الحقيقة القضائية فإن تدخل القانون يجعل نفس القاضي محكوما بالعديد من الموجهات التي يجب اعتبارها عند ذلك التحديد وتلك المفاضلة بين مختلف وسائل الإثبات المعروضة أثناء سير النزاع من طرف الخصوم.
وعلى هذا المستوى تنشأ علاقة وطيدة بين مفهوم الدليل القانوني والدليل القضائي. فالدليل القانوني يعني الوسيلة التي يختارها قاضي الموضوع من بين الوسائل التي يعرضها أطراف النزاع ويراها منتجة وقادرة على كشف الحقيقة القضائية وفق ما يحدده القانون سلفا من معايير اعتبار الدليل وطرق عرضه وربما زمن ذلك العرض في بعض الحالات[7]؛ بينما الدليل القضائي هو ما يختاره قاضي الموضوع من جملة الوسائل المعروضة عليه وفق المنهج القانوني بعد تقديرها وتحديد المؤثر منها في النزاع من غيره ليؤسس عليها حكمه المعبر عن الحقيقة القضائية التي توصل إليها[8].
غير أن مما تجدر الإشارة إليه أن أطراف النزاع قد لا يتمكنون من الاستفادة من الوسائل التي يتقدمون بها لإثبات وجهة نظرهم للقاضي ولو كانت تلك الوسائل قد قدمت وفق للشكليات التي فرضها القانون إذا كان الأطراف أنفسهم هم من تولوا صناعة تلك الأدلة، إذ لا يمكن مواجهة الغير بدليل اصطنعه الخصم بنفسه ولصالح نفسه، فالقاضي هنا لا يلتفت لهذا النوع من الأدلة ولو قدم له على النحو الذي فرضه القانون.
غير أن اصطناع الدليل بهذا الشكل لا يجب أن يختلط بالصورة التي يلجأ فيها الخصم إلى الجهات القضائية أو الإدارية أو أية جهة قانونية أخرى من أجل الحصول على وثائق قد تستعمل في الخصومة المتوقعة. كما هو الأمر مثلا بإثبات حال أو استجواب الخصم الآخر أو المعاينة أو ما إلى ذلك من الوسائل الممكنة. ففي مثل هذه الحالات لا يملك القاضي أن يرفض تلك الوسائل بصورة تلقائية؛ وفي المقابل يصبح ملزما بالتعامل معها على النحو الذي يتعامل به مع باقي وسائل الإثبات المعروضة عليه من طرف الخصوم.
ولعل الفرق بين الحالتين أنه في حالة اصطناع الخصم لدليله بنفسه يقوم هو نفسه بهذا الاصطناع كما هو الأمر مثلا بتولي الخصم كتابة عقد يتضمن التزام طرفين أحدهما كاتب العقد والآخر غَيرٌ لا علم له بوجود ذلك العقد، ثم يقدم كاتب العقد على مقاضاة ذلك الغير من أجل الوفاء بالالتزامات المضمنة بالعقد. ففي مثل هذه الحالة لا يأخذ القاضي بهذا العقد ولا بآثاره متى تيقن بأن كاتب العقد هو من الذي أنشأه بمحض إرادته المنفردة وأن المدعى عليه لا علم له بوجود العقد أصلا أو أنه أنكر أية صله له به. غير أن الحالة الثانية تفترض تدخل جهة ثالثة بين طالب وسيلة الإثبات ومن سيواجه بها، فالاستجواب الذي ينجز لفائدة شخص مثلا في مواجهة الغير يتطلب تدخل جهة ثالثة وهي المفوض القضائي وهذا الاستجواب لا يتحقق وجوده إلا بتحقق علم الخصم به؛ إذ أن هذا الأخير هو من سيتولى الإجابة عن الأسئلة الموجهة له، ولا تقوم لذلك الاستجواب قائمة متى تعذر أخذ إفادات الشخص المستجوَب. ونفس الأمر بالنسبة للمعاينة فهي لا تتحقق إلا بتدخل جهة مغايرة لأطراف الخصومة القضائية وهكذا. فالخصم في مثل هذه الحالات لا يتولى صناعة دليله بنفسه كما هي الصورة السابقة ولكن يتولى إدخال الغير في إنتاج هذا الدليل أو ذاك ومن تمة يصبح لهذا الأخير دور في الكشف عن الحقيقة الواقعية ويمكن للقاضي أن يرتكز عليه للإفصاح عن الحقيقة القضائية.
غير أنه بمناسبة الحديث عن قوة الدليل ودورها في اقتناع القاضي؛ لابد من الإشارة إلى بعض الحالات التي يفرض فيها المشرع وسيلة محددة لا يمكن إثبات موضوع النزاع إلا بها. ففي مثل هذه الحالة هل يمكن للقاضي أن يستند على وسيلة أخرى لتأسيس حكمه وإعلان الحقيقة القضائية أم أنه مجبر بالضرورة على الاستناد على الدليل الذي فرضه القانون؟
في سياق الجواب عن هذا التساؤل يمكن القول بأن الحالة التي يفرض فيها المشرع الاستناد على دليل بعينه دون سواه تختلف عن الحالة التي يلزم فيها المشرعُ الأطرافَ والقاضي نفسه بسلوك منهج معين لقبول الدليل أو رفضه. ففي الحالة الأولى يكون نظر المشرع قد اتجه إلى الاقتصار على دليل من نوع معين كالكتابة في الديون التي تفوق قيمتها مبلغا معينا [9] وتقديم الدليل الكتابي على شهادة الشهود. بينما في الحالة الثانية فإن المشرع يرسم للأطراف المسار الذي يجب عليهم سلوكه لعرض الدليل أمام القاضي وإلا لما التفت هذا الأخير لذلك الدليل ولو كان صحيحا منتجا من الناحية الواقعية؛ لأن مراد المشرع اتجه إلى إبطال مفعول ذلك الدليل لمجرد عدم تقديمه على النحو المحدد قانونا.
وهنا يطرح التساؤل حول قدرة القاضي على بناء قناعته بناء على دليل دون آخر، وما سر تدخل المشرع في مثل هذه الحالات لتحديد نوع الدليل الواجب الاستناد إليه أثناء سير الخصومة؟
لا يبدو من مقتضيات القانون أن المشرع يقلل من قدرة القاضي على استنباط الحقيقة من مختلف الأدلة التي قد تعرض عليه، ولكن تفاديا لمجموعة من الصعوبات والعراقيل التي قد تعترض المحكمة أثناء الفصل في النزاع مثل كذب الشهود أو عدم قدرتهم على تذكر التفاصيل المنتجة في النزاع أو ما إلى ذلك وكذا للمساهمة في تسريع الفصل في النزاعات في أجل محدد؛ فإن المشرع قد يرى ضرورة اختيار الدليل الأكثر قدرة للكشف عن الحقيقة الواقعية لتترجم لحقيقة قضائية تكون أكثر قربا من الواقع[10].
وزيادة على ما ذكر فإن تعامل القاضي مع الوسائل المعروضة لإثبات الواقع واعتمادها أساسا لإعلان الحقيقة القضائية قد يصطدم مع الحالة التي تعجز فيها قناعة القاضي على الترجيح بيت الأدلة المدلى بها بين الخصوص إما لكون تلك الأدلة لا تفي بغرض الكشف عن الحقيقة الواقعية أو لكونها تتساوى في القوة وتتوارد على نفس الموضوع تواردا يستحيل معه الجمع بينها أو ترجيح إحداها على الأخرى، فما العمل عندها؟
يحيلنا هذا التساؤل على مفهوم الشك الذي يعترض القاضي عند الفصل في نزاع ما، ففي الحالة التي تتساوى فيها أسلحة المتخاصمين ممثلة في أدلة عرضت على النحو القانوني ولها نفس القوة الثبوتية ويعجر القاضي عن الترجيح بينها يجوز لنا القول بأن هذا الأخير ينتقل في مثل هذه الحالة من الاستناد على الدليل القانوني إلى الاستناد على الدليل المناسب.
ومعنى هذه الفرضية أن محكمة النقض لا يمكنها الاعتماد على مجرد شك القاضي الناتج عن عدم القدرة على الترجيح بين الأدلة الكاشفة للواقع، وإنما يجب أن يكون هذا الشك مؤسسا ومبنيا على جهد يثبت أولا فحص الأدلة فحصا دقيقا ويخلص ثانيا إلى تبيان العناصر المعتمدة للقول بعدم إمكانية الترجيح بينها. فعندها يكون للشك القضائي معنى ويصبح له تأثير في الكشف عن الحقيقة القضائية، ويكون هذا النوع من الشك سببا للانتقال من الاعتماد على الدليل القانوني إلى الدليل المناسب القائم على اعتماد القاضي على عناصر خارج نطاق النزاع كما عرضه الأطراف على القاضي، وقد تكون تلك العناصر واردة في صلب القواعد القانونية المنظمة للعلاقات بين الأفراد والمؤسِّسة لأدوارهم ومراكزهم القانونية.
ومن قبيل الحالات التي يلجأ فيها القاضي إلى الدليل المناسب ما يتصل بمقتضيات الفصل 473 من ق ل ع الذي ينص على أنه: “عند الشك يؤول الالتزام بالمعنى الأكثر فائدة للملتزم.” فلو أن المدعي تقدم بدعوى أمام القضاء لاستخلاص دين قيمته تقل عن 10000.00 درهم ولم يكن له من الأدلة إلا أشخاصا شهودا على واقعة المداينة عرض شهادتهم على القضاء، في حين عرض المدعى عليه المدين شهادة شهود آخرين وتناقضت شهادات الشهود تناقضا يستحيل معه الجمع بينها ولا سبيل لترجيح الشهادة المثبتة على الشهادة النافية فإن القاضي عندها يصبح ملزما بإعمال القاعدة الواردة بالفصل أعلاه على اعتبار أن إبراء ذمة المدين في مثل هذه الحالة يعتبر الأكثر فائدة له. وهنا تظهر قوة القاعدة التشريعية في إقرار حقيقة قضائية قد لا تكون مطابقة بالضرورة للحقيقة الواقعية ولكنها نتيجة منطقية لتساوي حجج الخصوم تجعل القاضي ينتقل من الاعتماد على الأدلة القانونية التي يعتمدها الأطراف لإثبات ادعاءاتهم إلى الأدلة المناسبة التي يستند عليها القاضي للكشف عن الحقيقة القضائية.
المرتكز الخامس : ضرورة ارتباط طبيعة الدليل المعتمد بطبيعة المصلحة المتنازع حولها
إن مما يجب الانتباه له في سياق الحديث عن دور الإثبات في كشف الحقيقة القضائية، هو “مبدأ الموازنة” بين القيمة المرتبطة بالحق موضوع النزاع والدليل المناسب لإثبات وجود أو نفي ذلك الحق. فالمشرع وإن حدد للقاضي في معظم فروع القانون القواعد الواجب سلوكها للاعتراف بالدليل وقوته المنتجة في الإثبات، فإنه بالمقابل لم ينظم جميع جوانب نظام الإثبات. والعلة في ترك هذه الفسحة للتعامل في نظرنا يرجع إلى كون المنطق القانوني في الصياغة التشريعية يقوم على التعميم والإجمال، بينما المنطق القضائي المتصل بالفصل في النزاعات يتأسس على التفصيل والتقييد وعلى النظر في الحالات الخاصة منفردة، بما يعنيه هذا الانفراد من ظروف خاصة وحيثيات مختلفة عن حيثيات نزاع آخر ولو اتحد النزاعان تحت مسمى واحد.
وهكذا فإن المقاربة القضائية المعتمدة على حل النزاع يمكن أن تنبني على وسائل إثبات تخضع في مجملها للقواعد المؤسسة لنظام الإثبات المعترف به قانونا، غير أنها في ذات الوقت تمتلك الحرية الكاملة في التعامل مع تلك الوسائل بصورة ذكية تتأثر بطبيعة النزاع والقيمة المراد حمايتها من خلال الدفاع على الحق المتنازع فيه.
فالموازنة التي ينبغي أن تقوم بين المصلحة في حماية الحق في الخصوصية المعترف بها للعامل أو الأجير مثلا وتلك الرامية لضمان تحقيق الربح من خلال الاستغلال الأمثل لوسائل الإنتاج التي يضعها المشغل رهن إشارة الأجير تفرض على القاضي أن يتعامل بذكاء عند الفصل في دعوى الفصل التعسفي مثلا. فإذا كان للمشغل الحق في الرقابة والتوجيه باعتبارهما عنصران أساسيان لعقد الشغل فإن لهذين العنصرين حدود لا يجب على المشغل تجاوزها ولو داخل المكان المخصص للعمل. إذ لا يمكن لرب العمل مثلا أن يتولى تنصيب الوسائل المعلوماتية من كاميرات وغيرها بمختلف زوايا المكان المخصص للعمل بدعوى أنها جزء مادي من الرقابة والتوجيه لضمان أداء الأجير لعمله على الوجه المطلوب من المشغل، بل لابد له من مراعاة الأماكن التي يحتفظ بها الأجير بخصوصيته كالمكان المخصص لتغيير الملابس أو المكان المخصص لتناول الوجبات الغذائية ونحوها. ففي مثل هذه الحالات يطرح التساؤل حول مدى إمكانية اعتماد القضاء على الأدلة التي يستقيها المشغل من خلال استعماله للتسجيل بالكاميرات الموضوعة في الأماكن التي يفترض في الأجير أنه يختلي فيها لقضاء مآربه الخاصة، وهل لتلك الأدلة دور في إبراز الحقيقة القضائية أم لا؟ هنا تظهر أهمية النظر في التأثير الذي يمكن أن تحدثه القواعد المؤسسة للخصوصية في إثبات أو نفي الواقعة محل النزاع وبالتالي التأثير على الحقيقة القضائية.
فلو اعتمد القاضي مثلا تلك التسجيلات المستقاة من الكاميرات المنصوبة في أماكن تغيير الملابس للقول بأن العامل قام بسرقة أداة من أدوات العمل عن طريق إخفائها في ملابسه الخاصة فإن ادعاء الأجير أن مشغله طرده طردا تعسفيا سيصبح غير مؤسس وبالتالي سيكون الموقف الذي قد تتخذه المحكمة للقول بانتفاء عناصر الطرد التعسفي موقفا قانونيا صرفا على اعتبار أن الحقيقة القضائية قامت على دليل أثبت إخفاء العامل لشيء مملوك للمشغل وحازه حيازة غير مشروعة وهو ما يندرج في إطار مقتضيات المادة 39 من مدونة الشغل. لكن بالمقابل إذا كان القضاء يتولى تقديم حماية الخصوصية على أية مصلحة أخرى فإنه سيستبعد الدليل المدلى به من طرف المشغل مادام أن هذا الأخير استقى دليله عن طريق تنصيب كاميرا في مكان له خصوصية ومسيج بحماية قانونية تجعل من كل انتهاك لها أثره المتمثل في تحمل المسؤولية القانونية التي ستجد صورتها في مثل هذه الحالة في نزع القوة الثبوتية لكل تسجيل تم خرقا لقواعد الحماية المذكورة وهو ما سيدفع بالقاضي إلى استبعاد الوسيلة المدلى بها من طرف المشغل مما سيؤثر إيجاب على موقف الأجير الذي ينازع في طبيعة فصله عن العمل.
والأمثلة على ضرورة مراعاة هذه الموازنة كثيرة سواء في المجال المدني أو الأسري أو التجاري أو غيرها من المجالات الأخرى، وهو الأمر الذي سيجعل من الانتباه إلى هذا المبدأ ذو أهمية بالغة في دراسة دور الأدلة في الكشف عن الحقيقة القضائية ومدى قدرة القضاء على التعامل مع الحالات التي تستدعي إعمال “مبدأ الموازنة” بين المصالح المحمية ولو كانت خاصة والمصالح الأقل حماية.
وخلاصة القول فإن الحقيقة القضائية تقتضي النظر في دور الدليل في تحديد المراكز القضائية للخصوم وكيف يمكنه أن يؤثر في كل من المراكز القانونية و الواقعية لنفس الخصوم، وكلما كان الدليل كثر شفافية وقوة كلما كانت الحقيقة القضائية أكثر قربا من نظيرتيها القانونية و الواقعية.
الإحالات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نص دستور 2011 في فصله 120 على ما يلي: ” لكل شخص الحق في محاكمة عادلة، وفي حكم يصدر داخل أجل معقول” فصدور الأحكام داخل الآجال المعقولة يعتبر سيفا ذو حدين، من جانب أول يضمن لأطراف الخصومة حقهم في فض النزاع داخل أجل قريب باعتبار هذا الحق مظهرا من مظاهر المحاكمة العادلة، غير أنه من جانب آخر فإنه يقوم على وجود قيد على حرية الخصوم في تصفية النزاع على الصورة اللائقة.
[2] الحقيقة الحقيقية هي ما يطابق الواقع، وتتجسد في الصورة التي يكون عليها الأطراف قبل نشوب النزاع، بينما الحقيقة القضائية هي ما يكشف عنه القضاء بعد رفع النزاع أمامه وتقديم الحجج على صحة الادعاءات التي تصدر عن الأطراف ولو أن هذه الصحة غير يقينية بل تميل إلى مجرد الظن الغالب.
وفي الحديث النبوي الشريف عن أُمِّ سَلَمةَ رضي اللَّه عنها: أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: “إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ” وهذا الحديث يشكل أساسا للتمييز بين الحقيقة القضائية القاائمة على الدليل الظاهري الموصوف بالظنية، في مقابل الحقيقة الواقعية والتي تشكل حقيقة حقيقية لا يعلم جوهرها إلا الأطراف المتخاصمون.
[3] وفي هذا الاتجاه نسير محكمة النقض عند مراقبتها لأحكام محاكم الموضوع التي تغفل التقيد بالقواعد المنظمة لطرق تقديم الدليل وتحديد قوته الثبوتية؛ فقد سبق لها أن ألغت حكما بني على مجرد صورة شمسية متعلقة ببيع عقار بناء على أن الفصل 489 من ق ل ع ينص على ضرورة كتابة العقد المتعلق بالعقار في محرر ثابت التاريخ، وهذا ما ذهب إليه القرار الصادر عن محكمة النقض تحت عدد 1982 الصادر بتاريخ 07/04/2012 في الملف المدني عدد 1874/1/7/2010 الذي جاء فيه : : حيث صع ما نعاه الطاعن، ذلك أنه بمقتضى الفصل 489 من ق ل ع، فإن العقد يجب أن يكون كتابة في محرر ثابت التاريخ، وبالتالي فإن الاحتجاج بالصورة الفوتوغرافية للعقد المقدمة من طرف المطلوب غير كافية لتنهض كدليل إثبات ما لم يشهد بمطابقتها لأصلها الموظفون الرسميون المختصون تطبيقا لمقتضيات الفصل 440 من نفس القانون والمحكمة لما اكتفت في قرارها بأمر المحافظ على الأملاك العقارية بتنفيذ عقد البيع بناء على الصورة الفوتوغرافية في غياب ما ذكر يجعل قرارها ناقص التعليل المنزل منزلة انعدامه”
[4] ينص الفضل 476 من ق ل على ما يلي: ” يجب على من يتمسك بالعادة أن يثبت وجودها. ولا يصح التمسك بالعادة إلا إذا كانت عامة أو غالبة، ولم تكن فيها مخالفة للنظام العام ولا للأخلاق الحميدة.” فكما هو واضح من خلال هذه المقتضيات أن المشرع لم يلزم القاضي بضرورة معرفة العادات التي درج الناس على اعتبارها موجهة لسلوكهم، و لكن جعل أمر التمسك بها والاحتكام إليها مشروطا بضرورة إثبات وجودها من طرف الجهة المتشبثة بها، ومن مستلزمات إثبات العادة إثبات سريانها في الوقت الذي ينشأ فيه الالتزام ومعرفة أطرافه بوجودها وبكونها لاتزال عاملة ومؤثرة عند نشوب النزاع.
[5] وفي هذا الصدد فقد سبق لمحكمة النقض أن أيدت قرارات متعددة في شأن بسط قضاء الموضوع لرقابته على تحديد المسائل المنتجة من غيرها أثناء المنازعة القضائية، ومن بين تلك القرارات ما أصدرته محكمة النقض في قرارها عدد 4336 الصادر بتاريخ 09-10-2012 في الملف المدني رقم 984/1/4/2012 والذي قضى بأنه: “لكن حيث إن المحكمة لم ترد على الدفع الذي تمسك بع والمتعلق بكونه هو من بنى الطابق الأول وأدخل تحسينات عليه حسب الوكالة المؤرخة في 31-08-1992 فإن المحكمة قد ردت عليه وعن صواب “بأن مجرد الإدلاء بوكالة لا يمكن معه الإثبات بأن المدعى عليه هو من قام ببناء الطابق الأول بل لابد من الإدلاء بحجج دامغة تؤكد هذا الادعاء، هذا علاوة على أن هذا الدفع ليس موضوع دعوى مضادة مما يتعين معه رده لعدم جديته”
[6] في هذا الصدد فقد نص المشرع المغربي في العديد من مقتضيات ق ل ع على فكرة الأجل المعقول سواء لصالح المدين أو لصالح الدائن، ومن قبيلها ما جاء في الفصل 144: “إذا ماطل الدائن في الاختيار، كان للطرف الآخر أن يطلب من المحكمة أن تمنحه أجلا معقولا يتخذ فيه قراره. فإذا انقضى هذا الأجل من غير أن يختار الدائن ثبت الخيار للمدين.” أو الفصل 255 الذي ينص على أنه: “يصبح المدين في حالة مَطْـل بمجرد حلول الأجل المقرر في السند المنشئ للالتزام.
فإن لم يعين للالتزام أجل، لم يعتبر المدين في حالة مَطْـل، إلا بعد أن يوجه إليه أو إلى نائبه القانوني إنذار صريح بوفاء الدين، ويجب أن يتضمن هذا الإنذار:
1 – طلبا موجها إلى المدين بتنفيذ التزامه في أجل معقول؛
2 – … ”
وكذا ما ورد بالفصل 936: “لا يحق للوكيل التنازل عن الوَكالة إذا كانت قد أعطيت له في مصلحة الغير، إلا لمرض أو عذر آخر مقبول. وفي هذه الحالة يجب عليه أن يخطر الغير الذي أعطيت الوَكالة في مصلحته بتنازله، وأن يمنحه أجلا معقولا ليتدبر خلاله أمره، على نحو ما تقتضيه ظروف الحال.”
ولا يقتصر الأمر على ق ل ع فقط وإنما يمتد إلى مقتضيات قوانين أخرى كمدونة الأسرة كحالة الظرف الاستثنائي المنصوص عليه في المادة 41 التي جاء فيها أنه: ” لا تأذن المحكمة بالتعدد:
– إذا لم يثبت لها المبرر الموضوعي الاستثنائي؛
– إذا لم تكن لطالبه الموارد الكافية لإعالة الأسرتين، وضمان جميع الحقوق من نفقة و إسكان ومساواة في جميع أوجه الحياة.”
وقد سبق للقضاء أن أعطى لمفهوم المبرر الاستثنائي معان متعددة منها كون هذا المبرر يتجسد في الرغبة في جمع الشمل بين الزوجة الراد التعدد بها لكونها طليقة الزوج وله منها ابن ( انظر حكم المحكمة الابتدائية للفقيه بن صالح الصادر بتاريخ 19/03/2007 في الملف في الملف عدد 41/2006) وقد جسدته محكمة النقض أيضا في الرغبة في إنجاب ولد ذكر بعد بلوغ المرأة سن اليأس وموفقتها على زواج زوجها
أو ما جاء في مدونة الشغل في المادة 39 التي تنص على ما يلي: ” تعتبر بمثابة أخطاء جسيمة يمكن أن تؤدي إلى الفصل، الأخطاء التالية المرتكبة من طرف الأجير:”
فالمؤسسات القانونية موضوع مثل هذه المقتضيات القانونية كمؤسسة الأجل المعقول أو مؤسسة الظرف الاستثنائي أو مؤسسة الخطأ الجسيم كلها مؤسسات يختلط فيها القانون بالواقع، ولا رقابة لمحكمة القانون على امتدادها الواقعي الذي يستقل قاضي الموضوع بتقييمه، و لكن تلك الرقابة تظهر وتكون مبررة متى تمت إثارة تلك المؤسسات ولم يلتفت إليها قاضي الموضوع.
[7] ومن قبيل الطرق المحددة سلفا من قبل المشرع لتقديم وقبول الدليل وتحديد آثاره ما تم النصيص عليه في الفصل 442 من ق ل ع الذي جاء فيه ما يلي: “لا يسوغ للخصوم، في الأحوال المنصوص عليها في الفصلين السابقين أن يطلبوا تقديم أصل الوثيقة المودع في الأرشيف إلى المحكمة. ولكن لهم دائما الحق في أن يطلبوا مقابلة النسخة بأصلها وإن لم يوجد الأصل فبالنسخة المودعة في الأرشيف، ويجوز لهم أيضا أن يطلبوا على نفقتهم تصويرا فوتوغرافيا لما هو مودع في الأرشيف من أصل أو نسخة.
إذا لم يوجد في الأرشيف العام لا أصل الوثيقة ولا نسخته، فإن النسخ الرسمية المأخوذة طبقا لأحكام الفصلين 440 و441 تقوم دليلا، بشرط ألا يظهر فيها شطب ولا تغيير ولا أي شيء آخر من شأنه أن يثير الريبة.”
[8] لقد سبق لقضاء الموضوع أن قدم الدليل المكتوب على شهادة الشهود بالرغم من أن قيمة المدعى فيه لا تتجاوز 10000.00 درهم، وذهبت محكمة النقض إلى تأييد هذا الموقف القضائي على اعتبرا أنه يدخل في صميم السلطة التقديرية لقضاء الموضوع الذي لا رقابة لمحكمة النقض عليه فيه إلا في حدود ما يستخلصه من أسباب سائغة تؤسس الحكم الذي خلص إليه، يراجع القرار الصادر عن محكمة النقض عدد 3029 المؤرخ في 19-06-2012 في الملف المدني عدد 2180/1/7/2011.
[9] الفصل 443 من ق ل ع ينص على أن: “الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشئ أو تنقل أو تعدل أو تنهي الالتزامات أو الحقوق، والتي يتجاوز مبلغها أو قيمتها عشرة آلاف درهم، لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود. ويلزم أن تحرر بها حجة رسمية أو عرفية، وإذا اقتضى الحال ذلك أن تعد بشكل إلكتروني أو أن توجه بطريقة إلكترونية.”
[10] وفي هذا السياق تمكن الإشارة إلى دور الكتابة الذي ما فتئ يتعاظم بصدور التعديلات التشريعية المتعاقبة كإلزام الأطراف بإبرام العقود المتصلة بالتصرفات العقارية عن طريق عقود رسمية يبرمها موثقون أو عدول أو عن طريق عقود ثابتة التاريخ يحررها محامون مقبولون للترافع أمام محكمة النقض ومسجلون بجدول المحامين المعينين من أجل ذلك، فمن شأن هذا التوجه أن يساهم في تعزيز موقف الطرف الضعيف والقاضي أيضا في الكشف عن الحقيقة القضائية بموجب الدليل المفضل تشريعيا، وإلا فإن النزاع يمكن أن يثبت بطرق أخرى.
المصدر: الجامعة القانونية المغربية الافتراضية